كلمتان تتكرران على الألسنة كثيراً ، وهما سبب رئيس لحالة الفشل العامة والخاصة ؛ التي تعيشها الأمة,وأفرادها .
إن منبع هاتين الكلمتين ؛ هو العجز العقلي , قبل أن يكون عجزاً حقيقياً واقعياً . والعقول العاجزة لا تصنع إلا الفشل .
لا
مراء ولا جدال أن هناك أموراً في الحياة لا يستطيعها الفرد ؛ ولـذلك كـان
النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع الصحابة يقول لهم : ( فيما استطعت )
؛كما في حديث ابن عمر – رضى الله عنهما - وغيره .
بل يقول سبحانه
تأكيداً لهذا الأمر : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) (
البقرة: من الآية 286) ؛ مما يدل على : أن هناك ما هو فوق الوسع والطاقة .
ومن هنا فإن هذه الحقيقة ليست مندرجة في هذا الموضوع الذي نحن بصدده , حتى
لا ندخل في جدال لا ينتهي ؛ بل ينتهي بنا إلى الوهم الكبير :
( لا أستطيع – مستحيل ) ويزيد على ذلك : بأن نلبسه لباساً شرعياً .
إن
هاتين الكلمتين - مع ما بينهما من فرق في اللغة والدلالة والمعنى - فقد
أصبحتا قانوناً لكل عجز,وتأخر, وتفريط . تساقان للتبرير , والتخدير ,
وتحطيم العزائم ووأد النجاح .
كثير من الناس ، وأجيال تتلوها أجيال ،
جعلت من هاتين الكلمتين: نبراساً لحياتهم ومنهجاً لتفكيرهم ، ومنطلقاً
للشعور بعدم التقصير ، وأساساً للرضى بالواقع المرير .
إنني أقف مدهوشاً
أمام هذا التخلف الرهيب , في واقع الأمة وحياتها ؛ مع ما تملكه من مقومات
النجاح,والتفوق, والريادة , والسيادة . ومن ثم , أعملت تفكيري في هذا الأمر
الجلل ؛ فتوصلت - بعد مراحل من البحث والتحليل، والسبر والتقسيم - إلى أن
من أهم الأسباب في ذلك – والأسباب كثيرة– :تحول هـذا الوهم الكبير : ( لا
أستطيع – مستحيل ) إلى قاعدة صلبـة في حياة كثير من أفراد الأمة أولاً،
وشعوبها ثانياً . منهـا ينطلقون ، وفي ظلامها يسيرون.
وكم
جر علينا هذا الوهم - ولا يزال- : من مآس , وتأخر, وتقهقر في أمور الدين
والدنيا ؛ ولذلك فإن من أخطر ما يتعلق بهذا الأمر هو : عدم الإدراك بأنه
وهم ، لا يثبت عند التحقيق , والتمحيص . فترى من يفني جزءاً من حياته
للدفاع عن هذا الصنم ؛ ليثبت أنه ركن صلب , وحقيقة قائمة ، ومسلمة لا مراء
فيها .
إن
هذا الوهم لم ينشأ بين عشيه وضحاها ؛ وإنما هو ثمرة لمجموعة من التراكمات
والعوامل ؛ نشأت على مر السنين والأعوام . وهو إفراز لظروف مرت بها الأمة
في تاريخها الطويل . فبدل أن تنتج من رحم المعاناة رجالاً ؛ يقودون الأمة
إلى الرقي , والتقدم دون استسلام للصعوبات , والعقبات وبنيات الطريق ؛ وإذا
بتلك العوامل تكون سببا لمزيد من الإحباط , واليأس , والفشل , والتردي في
هوة الوادي السحيق .
كم يتعجب المرأ عندما يرى أمة وثنية ؛ اتخذت من
الشدائد منطلقاً لرقيها ومزاحمتها لأشد أعدائها,دون أن تستسلم للهزيمة
النفسية ، والإحباط المعنوي .
فهذه
اليابان جعلت من حطام قنبلتي ( هيروشيما , وناجازاكي ) وقوداً سريع
الإنضاج , لما وصلت إليه من رقى, وتحضر في أمور الدنيا ؛ حتى أصبحت رقماً
مهماً في المعادلة الاقتصادية الدولية ، ولم تجعل من تلك الهزائم, والفواجع
وسيلة للبكاء , واستدرار عطف الآخرين .
أما
ألمانيا ؛ فقد خرجت من تحت أنقاض الخراب والدمار دولة كبرى . يحسب لها
المجتمع الدولي ألف حساب. وأصبح اقتصادها من أقوى ركائز الاقتصاد في العالم
مع أنه لم يمر على تدمير ألمانيا سوى سنوات معدودة ؛ حيث إن النقلة بين
التاريخيين لا تزيد عن ( 30 ) عاماً .
إنني
أسرح في تفكيري بعيداً !! فأقول : يا تُرى , لو أن المجددين والمصلحين -من
قادة الأمة - استسلموا لهذا الوهم الكبير : ( لا أستطيع – مستحيل ) ، كيف
سيكون حال الأمة ومصيرها ؟!!
لو أن أبا بكر – رضي الله عنه – قال : لا أستطيع مقاتلة العرب بعد ارتدادهم واستسلم لهذا الواقع المرير – وحاشاه من ذلك – كيف
ستكون النتيجة ؟! إن مجرد التفكير في ذلك ؛ يحدث هزة ورعباً .
لو
أن أحمد بن حنبل – رحمه الله – لم يقف ذلك الموقف الصعب الصلب , في وجه
قادة الفتنة , من أساطين المبتدعة , المدعومين من حكام لم يدركوا خطورة ما
فعلوا واستسلم لـ ( لا أستطيع – مستحيل ) , فهل يا ترى يكون قد تحقق ذلك
النصر المذهل , لأهل السنة على يد رجل واحد ، تخلى عنه أقرب الناس إليه ،
وبقى في الميدان وحيداً، يواجه عتاة الفتنة العمياء ، وتأول المحبين؟! .
لو
أن صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله - استسلم لذلك الذل الرهيب , الذي كانت
تعيشه الأمة تحت استعمار الصليبيين ، وهم يدنسون بقعة من أقدس البقاع في
الأرض ، معللاً نفسه بأنه : لا يستطيع أن يواجه تلك القوى الغاشمة , التي
تملك أقوى الأسلحة المادية ، مع الدعم اللا محدود من كثير من بلدان العالم ،
ورضى لنفسه ما رضيه كثير من حكام زمانه ؛ بالخضوع والخنوع , مع ضمان الملك
والسلطان . لو أنه فعل ذلك ، وقال: إن إخراج النصارى ومواجهتهم مستحيلة ،
أكانت القدس تطهر من براثن الصليبيين وحقدهم ؟!! قد تمر سنوات طويلة ؛ حتى
يتحقق ما تحقق على يد صلاح الدين في حطين ، وما أشبه الليلة بالبارحة!
لو
أن شيخ الإسلام ، ابن تيمية – رحمه الله – لم يشمر عن ساعد الجد علماً
وعملاً وجهاداً ، في زمن سيطر عليه الجمود ، وارتفعت فيه أصوات أهل الباطل ،
من المبتدعة ، وأرباب الكلام ، مع هزائم سياسية وعسكرية ؛ عانت منها الأمة
في وقته لو أنه استسلم لعقيدة ( لا أستطيع – مستحيل ) ، أيكون قد حفظ لنا
التاريخ ذلك التراث الضخم من البطولات ، والصولات ، والجولات ، والعلم
الغزير ، والمنهج السديد الرصين ، والتحدي للباطل - حتى آخر نفس من حياته ،
وهو فرد واحد ، ولكنه كان يأوي إلى ركن شديد؟!!
وتاريخنا الطويل مليء بمثل أولئك الرواد من القادة ، والمصلحين ،
والمجددين ، الذين سطروا بمداد من نور أروع الأمثلة ، والنماذج على قدرة
المسلم على تحطيم اعتي العقبات الحسية ، والمعنوية دون أن يستسلموا للهزيمة
النفسية والتخدير المركب .
سيقول كثيرون: إن أولئك الرجال عظماء ، وقليل ما هم !!
فأقول
: إننا لم نعرف أنهم عظماء ؛ إلا بعد أن سجلوا تلك الصفحات المشرقة وقاموا
بتلك البطـولات الرائعـة في شتى الميادين ؛ وإلا فإنهم قبل ذلك رجـال
عاديون ؛ ولكنهم - لأسباب كثيرة - تدرجوا في قصة النجاح الطويلة ، التي
جعلت منهم أبطالاً وقادة . وكان على قمة تلك الأسباب : تحطيم ذلك الوهم
الكبير ( لا أستطيع – مستحيل ) .