بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فصل :
في هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه
كان صلى الله عليه وسلم أفصحَ خلق اللّه، وأعذبَهم كلاماً،
وأسرعَهم أداءً، وأحلاهم مَنْطِقاً، حتى إن كلامه لَيَأْخُذُ بمجامع
القلوب، ويَسبي الأرواح، ويشهدُ له بذلك أعداؤه. وكان إذا تكلم تكلَّم
بكلام مُفصَّلِ مُبَيَّنٍ يعدُّه العادُّ، ليس بِهَذٍّ مُسرِعِ لا يُحفظ،
ولا منقَطع تخلَّلُه السكتات بين أفراد الكلام، بل هديُه فيه أكملُ الهدي،
قالت عائشة: " ما كان رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم يَسْرُدُ سردَكم هذا، ولكن كان يتكلَّم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ يحفظه من
جلس إليه. وكان كثيراً ما يُعيد الكلام ثلاثاً لِيُعقلَ عنه، وكان إذا
سلَّم سلَّم ثلاثاً. وكان طويلَ السكوت لا يتكلم شي غيرِ حاجة، يفتتحُ
الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام
"


فصل :
لا
فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلم فيما لا يَعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو
ثوابه، وإذا كرِه الشيء: عُرِفَ في وجهه، ولم يكن فاحشاً، ولا متفحِّشاً،
ولا صخَّاباً. وكان جُلُّ ضحكه التبسم، بل كلُّه التبسم، فكان نهايةُ
ضحكِه أن تبدوَ نواجِذُه.
وكان يضحكُ مما يُضحك منه : وهو مما يُتعجب من مثله ويُستغرب وقوعُه ويُستندر.
وللضحك أسباب عديدة ، هذا أحدها والثاني: ضحِك الفرح، وهو أن يرى ما يسرُّه أو يُباشره والثالث : ضحِكُ
الغضب، وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان
مما أورد عليه الغضبُ، وشعورُ نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد
يكون ضحكُه لِمُلكه نفسه عند الغضب، وإعراضِه عمن أغضبه، وعدم اكتراثه به.


وأمَّا بكاؤه صلى الله عليه وسلم :
فكان مِن جنس ضحكه، لم يكن بشهيقٍ ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن
كانت تدمَعُ عيناه حتى تَهْمُلا، ويُسمع لِصدره أزيزٌ. وكان بكاؤه تارة
رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة مِن خشية اللّه،
وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحبٌ للخوف
والخشية. ولما مات ابنُه إبراهيم، دمعت عيناه وبكى رحمة له، وقال: ((تَدْمَعُ العَيْنُ، وَيَحْزَنُ القَلْبُ، ولا نَقُولُ إلا مَا يُرْضِي رَبَّنا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)). وبكى لما شاهد إحدى بناتِه وَنَفْسُها تَفِيضُ، وبكى لما قرأ عليه ابنُ مسعود سورة (النساء) وانتهى فيها إلى قوله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هَؤُلاءِ شَهِيداً }
[النساء: 41] وبكى لما مات عثمان بن مظعون، وبكى لما كَسَفت الشَّمْسُ،
وصلى صلاة الكُسوف، وجعل يبكي في صلاته، وجعل ينفخ، ويقول: (( رَبِّ أَلَمْ تَعِدْني أَلاَّ تُعَذِّبَهُم وَأَنَا فِيهِمْ وهُمْ يَسْتغْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُك )) وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكَانَ يَبكي أحياناً في صلاة اللَّيلِ.

والبكاء أنواع. أحدها : بكاء الرحمة، والرقة.

والثاني : بكاء الخوف والخشية
والثالث : بكاءُ المحبة والشوق
والرابع : بكاءُ الفرح والسرور
والخامس : بكاء الجَزَع مِن ورود المؤلِم وعدم احتماله.
والسادس : بكاءُ الحزن.
والفرق بينه وبين بكاء
الخوف، أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه، أو فوات محبوب، وبكاء
الخوف يكون لِمَا يتوقع في المستقبل مِن ذلك، والفرق بين بكاء السرور
والفرح، وبكاء الحزن، أن دمعة السرور باردة، والقلب فرحان، ودمعة الحُزن
حارة، والقلب حزين، ولهذا يقال لما يُفرح به: هو قُرَّةُ عَيْنٍ، وأقرَّ
اللَّهُ به عينَه، ولما يُحزن: هو سخينةُ العين، وأس
خن اللَّهُ عينَه بِه.
والسابع : بكاء الخور والضعف.
والثامن : بكاء النفاق، وهو أن تدمعَ العين، صاحبُه الخشوع، وهو من أقسى الناس قلباً.
والتاسع :
البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، فإنها كما قال
عمر بن الخطاب: تَبِيعُ عَبْرتَها، وَتَبْكي شَجْوَ غَيرها.
والعاشر : بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجُلُ الناسَ يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون، فيبكي.
وما كان من ذلك دمعاً بلا صوت، فهو بكى، مقصور، وما كان
معه صوت، فهو بكاء، ممدود على بناء الأصوات، وقال الشاعر:
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لهَا بُكَاهَا * * * وَمَا يُغْنِي الْبكَاءُ وَلاَ الْعَوِيلُ


وما
كان منه مستدعىً متكلفاً، فهو التباكي، وهو نوعان: محمود، ومذموم،
فالمحمود، أن يُستجلَب لِرقة القلب، ولخشية الله، لا للرياء والسُّمعة
والمذموم: أن يُجتلب لأجل الخلق، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله
عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يُبكيك يا رسولْ اللّه؟ فإن وجدتُ بكاءً بكيتُ، وإن لم أجد تباكَيتُ، لبكائكما ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم. وقد قال بعض السلف: ابكوا مِن خشية الله، فإن لم تبكوا، فتباكوا.

***********************
" زاد المعاد في هدي خير العباد " للحافظ ابن القيم
في هديه صلى الله عليه وسلم في " كلامه وسكوته وضحكه وبكائه "


[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد