كم تمنيت لو أن الله عز وجل خلقني سويا أبصر الأشياء وأتمتع بنعمة البصر، ولكن مشيئة الله سبحانه وتعالى أنه يخلق ما يشاء ويقدر، ولا إعتراض على حكم الله، كنت أظن وأنا طفله صغيرة أن كل من حولي من أفراد أسرتي وأقاربي هم مثلي لا يبصرون ولا يرون الأشياء، أسمع صوتهم في الصحوة ولا أراهم وكذلك في الأحلام وأنا نائمه أتكلم معهم وأسمع أصواتهم ولكن لا أرى صورهم وتمنيت لو أنني أرى أمي وأبي في الرؤيا والأحلام ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه
.نشأت طفلة بين أبوين حنونين في مدينة طولكرم ورغم قلة الإمكانيات المادية لم يرفضا لي طلبا في الحصول على شيء وكان همهما أن تبصر عيناي وترى النور فكل من يرى زراقهما ونصاعة بياضهما يكاد لا يصدق بأن هاتين العينين الجميلتين لا ترى ولا تبصر، تنقلت بين يدي الأطباء من عيادة إلى مستشفى ولكن بدون جدوى، وليس لدينا المال لنخرج إلى البلاد الأجنبية نلتمس منهم الدواء والشفاء، و في النهاية إستسلم أبي إلى نصائح الأطباء بأن حالتي ميؤوس منها ولا أمل للإبصار
.تفتحت طفولتي وأنا أنتقل من يد إلى أخرى تمسك بي وتسوقني في البيت وفي الشارع والأسواق حتى مللت مسك الأكف وبدأت أقاوم اليد التي تمتد لتمسك بكفي أو معصمي، كنت أريد أن أنطلق وحدي خصوصا في الأماكن التي عرفتها وتعودت عليها ولا حاجة لي بمرشد و دليل، وبدأت ألعب مع أطفال الجيران والأقارب، أركض ورائهم وأستمع لخطواتهم وحركاتهم وأتبعهم برشاقة وخفة وتلهف وسرور لا يقطعه إلا سقوطي أو إرتطامي بالأشياء التي تسبب لي الآلام الحادة والجروح التي تسيل منها الدماء وعندها أتوقف أبكي وأذرف الدمع وألملم الجراح، وبعد أن يسكن الألم أنسى ما حدث لي وأعاود الكرة مرات ومرات وسط التنبيهات والملاحقات من قبل والدي وأهلي الذين كانوا يلاحقوني بنظراتهم
.لقد عشت طفولة بريئه لا أشعر خلالها بالتنافس ولا بالضجر وكان يشغلني دائما ما يشغل الأطفال الصغار الحلوى والألعاب والخروج ولكن مع مرور الأيام كبرت وصار عمري خمس سنوات واستعد أطفال الجيران للإلتحاق بالمدارس وكنت أظن أنني مثلهم سأذهب إلى المدرسة في الصف التمهيدي وطلبت شراء الملابس المدرسية والشنطة والدفاتر والأقلام، وهنا بدأت الهموم في رأس والدي كنت في منطقة لا يوجد فيها مدارس للمكفوفين وأنا وحيدة والدي، فبدأ والدي وأهلي بالإستفسار عن المدارس الخاصة بالمعوقين بصريا وكم كانت فرحتهم كبيرة عندما علموا أنه يوجد في البيرة مدرسة للمكفوفين ولما تم قبولي وتسجيلي في هذه المدرسة وبدأت اللإستعداد للإنتقال إليها في بداية العام للدراسة والإقامة في سكنها الداخلي وكلي فرحه وسرور بأنني سأتعلم الكتابة والقراءة والجلوس في الصف مع الطالبات، بدأت هموم والديَ تزداد والأسى يعتصر قلبيهما، حيث أنني طفلتهما المدلله التي كانت تملؤ عليهما حياتهما بالسرور والبهجة و الأمل، و كلما اقترب يوم الرحيل كلما زادت أسئلتي عن يوم السفر ومصاحبتهما لي معا لتوصيلي ووداعي، و بدأت أسمع الكلمات تتحشرج في صدورهما والدموع تنهمر على خديهما وهما يضماني إلى صدرهما ويشداني بالقبلات وكأنني روح ستخرج من صدريهما إذا خرجت من هذا البيت ولأنني كنت طفلة صغيرة لم أكن أفهم مشاعرهما ولا أدرك تخوفهما ومدى تعلقهما بي
.وأخيرا حان موعد السفر فودعت شقيقي وجيراني وأقاربي وسافرت إلى مدينة البيرة ووصلت إلى المدرسة ودخلت بنايتها وكلي شوق وفرحة وأمل واستقبلتني المديرة والمعلمات ببشاشة وترحاب وكلمات الحنان والطمأنينة، ثم ودعت والدي بكل ثقة ووافقتهما على كل الإرشادات والطلبات والتوصيات التي سمعتها منهما، ودعتهما وأنا أتمرغ بالدموع المنسكبة بغزارة على خديهما، ولأنني كنت متشوقة إلى المدرسة والأطفال الموجودين فيها والذين أسمع ضحكهم وأصوات حركاتهم لم أكن أفكر كثيرا بقساوة الغربة ومرارة الإفتراق
.بدأت يومي الأول في التعرف على الأطفال الذين ينامون معي ويدرسون في التمهيدي وكان يوما جميلا وممتعا بالنسبة لي حيث بدأت أتعرف على عالم جديد وعلى أطفال لا يبصرون مثلي أستمع منهم وأسمعهم ما في جعبتي من أحاديث الأطفال
.كانت زيارتي لأهلي في عطلة نهاية الأسبوع تسير بانتظام في السنة الأولى والتي استفدت منها مهارات كثيرة وكنت عندما أصل إلى بيتنا أرددها على والدي وأقاربي أسمعهم الأناشيد والآيات التي أحفظها فيطيرون فرحا وأحدثهم عن أصحابي ومعلماتي فيستمعون إليها بشوق ولهفة
.ومرت السنة الأولى وترفعت إلى الصف الأول الأساسي وبدأت أتقن دروس كتابة وقراءة لغة بريل للمكفوفين وأتقن قراءة هذه الحروف بالعربية والإنجليزية. ولأنني كنت طفلة مؤدبة وذكية كانت معاملة المعلمات والمشرفات لي تزداد اهتماما ولم أكن أشعر بالوحشة أو الملل فقد كنت أشارك في جميع النشاطات المدرسية بالأناشيد والتمثيليات والرقص وهذا كان يسعدني ويشدني أكثر إلى هذه المدرسة
.ثم ترفعت إلى الصف الثاني الأساسي وبدأت في هذه السنة أحداث الإنتفاضة ولكون مدرستنا تقع على مرمى رصاص المستوطنة القريبة من البيرة فقد كانت ليالينا صعبة للغاية حيث يبدأ مع حلول الظلام في كل ليله التراشق بالرصاص والذي ينهمر على بناية المدرسة ونحن في غرف النوم فنغادر فراشنا إلى الطابق السفلي للإحتماء ونحن فزعين ومرعوبين وسط الصراخ والبكاء، واستمرت هذه الأيام طيلة العام والتي مرت علينا فيه ليلة لن أنساها مدى ما حييت فقد كنا قبلها وبعدها نسمع أصوات الإنفجارات من حولنا عندما تطلق الدبابات الإسرائيلية قذائفها على أنحاء المدينة، أما ليلة 2001-1-19 فقد أصابت إحدى قذائف الدبابات بناية سكن مدرستنا وانهارت إحدى غرف نوم الطالبات ودوى صوت الإنفجار الذي اهتزت له كل حيطان وأسقف البناية وتطاير الزجاج في وجوهنا ونحن نركض في الممرات ملتمسين النجاة وسط الصراخ والبكاء، و قدر لنا الله السلامة حيث لم يصب أحد بأذى نتيجة إخلاء الغرف قبل ضرب المقذوفة من الدبابة بدقائق
.لم تمنعنا هذه الإعتداءات الوحشية من مواصلة الدراسة لأننا كنا نشعر أن المسؤولين في هذه المدرسة كانوا حريصين على سلامتنا ورعايتنا وتوفير الأمان لنا بكل إخلاص ووفاء ولم تكن كل المدن والقرى بمأمن من مثل هذه الاعتداءات
.ولما انتقلت إلى الصف الثالث الأساسي كانت حصيلتي التعليمية في ازدياد مما ولد لدي الثقة والعزيمة، و لم يخطر في مخيلتي وأنا طفلة أن الموت يمكن أن يصل إلا لمن تقدم به العمر وأصبح شيخا طاعنا ولكن شاءت إرادة الله أن تختار أعز أحبائي إلي لقد جاءت إحدى قريباتي إلى المدرسة في ساعة الدوام الدراسي وطلبت مني الاستعداد للسفر إلى طولكرم ففرحت ولم أسأل عن السبب وظننت أنها زيارة مفاجئة لسبب مفرح. ولكن ما أن وصلت إلى البيت حتى سمعت أصوات البكاء والصراخ والعويل ثم المسجل يرتفع منه صوت قارئ ندي يتلو القران الكريم فتفاجأت وتأثرت وبدأ الخوف يدخل إلى قلبي حيث شعرت أن بعضهم قد مات ولم يخطر ببالي أن أبي هو الذي اختاره الله إلى جواره وهو في ريعان شبابه وتركنا وحيديين أنا وأمي وأخي في هذه الدنيا نعتصر الألم ونتجرع العذاب واللوعة، فقد ذهب عنا المعيل وأصبحت يتيمة وأمي أرملة وهي في نضرة شبابها، بدأت بالصراخ والبكاء وألقيت نفسي على جسد والدي الممدد على السرير أتلمس بيدي وجهه لأقبله قبلة الفراق وأودعه الوداع الأخير وأنا أناديه بأعلى صوتي بابا بابا ولا أشعر إلا بالأيادي من خلفي تمسك بملابسي وتشدني إلى الخلف لتبعدني عن جسده ولا يزيدني ذلك إلا إصرارا في التشبث بجسده وبالسرير الذي يسجى عليه وأسمع الأصوات من حولي بعضها يقول أتركوها لتشبع من وداع والدها وأصوات أخرى تصرخ إرحموا هذه الطفله وأخرجوها من هذه الغرفه، حملوني بعيدا عن والدي وأخرجوه وفارق بيتنا إلى دار الخلود
.رجعت بعد أيام إلى المدرسة وأنا أعيش حرقة الغربة واليتم وبقيت عدة أيام بين أيادي المشرفات والمعلمات والطالبات يلاطفنني ويداعبنني وينسنني الألم والوحشة حتى خرجت رويدا رويدا من الألم والحرقة، ولكن شعوري بفقدان أبي وأنا طفلة لا يمكن أن يمحا من دفاتر الأيام
.إن وجودي في هذه المدرسة ساعد في خروجي من دائرة اليأس والملل وأعطاني الطمأنينة والثقة والأمل وصقل شخصيتي وجعل اعتمادي على نفسي والإستفادة من حواسي الأخرى وأتاح لي فرصة حرية الحركة واللعب والترفيه، ولم يكن وجودي في هذه المدرسة يقطع صلتي بالعالم الخارجي فنحن نعود إلى بيوتنا في أيام العطل الأسبوعية إذا سنحت الظروف في الطرق للسفر في ظل الحصار والإحتلال ونخرج إلى حديقة البلدية مع مشرفتنا للعب ونشارك في المسابقات والفعاليات التي تقوم بها وزارة التربية والتعليم وأنا في هذا العام والحمد لله فزت بالجائزة الأولى لمسابقة القران الكريم في لواء رام الله و تسلمت درعا
.إن الإنسان المعوق يستطيع أن يتغلب على عاهته بالإصرار والثقه وبذل الجهد وإستغلال كل الإمكانيات المتاحه والمتوفرة له، وإن مدرستنا قد وفرت لنا كل ما يمكن أن يتمناه الكفيف من وسائل وإمكانيات وكفاءات. وإنني أتمنى أن يوفقني الله عز وجل في دراستي، وبعد أن أنتهي منها وأنجح في التوجيهي أن أدخل الجامعة وأتخرج منها وأبحث عن وظيفة أنفق فيها على نفسي وأعيل والدتي وأعوضها عن الألم الذي تحملته والمشقة التي كابدتها والتضحيات التي قدمتها لي. و أشكر كل القائمين على مدرستي وأشكر كل أهل الخير الذين يقدمون المساعدة لهذه المؤسسة التي ترعانا وتقدم لنا خدماتها مجانا لوجه الله تعالى